مذكرات

من ركام وطن إلى حلم لم يكتمل | رحلة لاجئة

في بلد عُرفت بالزّهو والحياة  طالت الحرب واشتدّت حتى صار ثقلها يؤلم القلب بدلاً من الكاحل، الشّام والسّلام كانا كلمتان مربوطتان برباط موثوق محكم، شائت الأقدار ولم يكن على تلك الفتاة الشابّة إلّا أن توضب أغراضها متّجهةً هي وعائلتها إلى أقرب نقطة متاحة خارج هذا البلد، خالجها الشعور بالتردد مصاحباً لفزع مرير، فمن عجب أن يأتي يوماً كهذا لتشهد فيه على تدمير وطن احتوى كيانها منذ المهد، فهل ستستطع أن تترك هذا الوطن بكل مافيه من احتواء وذكرى إلى بلد أجنبيّ لم يسبق لها أن زارته؟  بلد أجنبي، أي بلد هذا الذّي ستجرّ عليه عجلات حقيبتها  تاركة خلفها ركام وطنها متّجهة نحو قضاء مجهول لا علم لها به؟

نقطة هبوط الطائرة بعد اقلاعها من سوريا هي طرابلس الليبية، قصص جديدة، أناس جدد، حياة جديدة تنتظر تلك الشابّة في ليبيا، بالرغم من أن ليبيا ليست بذاك البلد الآمن في الوقت الراهن، فشأنها السياسيّ والأمنيّ لايزال مضطرباً، إلّا أنها لاتزال أقل دماراً وخراباً من سوريا التي حطّمت بأكملها جرّاء الحرب المشتعلة.

طرابلس الليبية جميلة، هذا ما أخبرتني به الفتاة أثناء حديثنا. كانت تتمشى في شوارعها محاولة أن تتأقلم مع أجوائها، أخبرتني أيضاَ بأنها تعرّفت على أناس وجيران قمّة في الطيبة والكرم، ومع مرور الأيام أصبحت طرابلس جزء لا يتجزأ من روحها، حتى عند ابتعادها عن طرابلس كانت تفتقدها أشدّ الافتقاد، ووصفت لي طرابلس وصفاً معبراً قائلة ان طرابلس بالنسبة لها هي “الروح.”

 تعرّفت على هذه الفتاة في المدرسة حيث كانت تلك السنة هي سنتي الأخيرة في مرحلة الثانوية، عند دخولها للفصل في اليوم الدراسي الأول لها علمت بأنها ليست ليبية لأنها بدت لي مختلفة عن سائر الفتيات الليبيات من ناحية الهيئة الخارجيّة، أمّا داخلياً فهي إنسانة خجولة جداً، من الصعب عليها التعامل مع أناس جدد ليست على علم إن كانوا صادقين معها أو منافقين، خاصّة وأن هذه الفتاة لا تفهم اللهجة الليبيّة ولا تتحدّث بها مطلقاً، ولكن في حديثي معها قالت لي أنها تحمد الله وتشكره لأنه أرسل لها مدرّسات لطيفات وصديقات رائعات لم يجعلنها تشعر ولو للحظة بأنها غريبة عن هذا المكان، ولازلت أستطعم طعم أكلة “المجدّرة” و”التبّولة” و”الكبّة” اللذيذ والتّي كانت تحضّرها لنا أم صديقتي بيديها.

يبدو من كل ماسبق أن الفتاة تعيش حياة هنيئة في بلدها الجديد، ولكن في الحقيقة لم تكن حياتها تخلو من الصّعوبات والمشاكل التّي تعترض مسارها يومياً وتزعجها، كعنصريّة بعض الليبيين اتّجاه اللاجئين والنّظر إليهم بنظرة دونيّة فظّة، وكأن اللّاجئ هو لص آتٍ ليسرق خيرات بلدهم ويجتاحها ويحتكرها لنفسه، بينما اللّاجئ هو إنسان يبحث عن مكان آمن يأويه من حرب دمّرت منزله وعاثت في بلده فساداً.

من الصعّوبات الأخرى التّي مرّت بها الفتاة هي انها كانت لا تمتلك الأوراق والفحوصات اللّازمة لإستكمال ملفّها المدرسي حتى تتمكّن من الحصول على الشهادة الثانوية، كل المحاولات التّي أجرتها للحصول على هذه الفحوصات والختومات باءت بالفشل، حتّى انها كانت على وشك إعادة سنوات الثانوية منذ البداية لولا رفض المدرسة لهذا الطلب، ممّا أصابها بإحباط شديد وتفكير مزمن في أن حلمها التي لطالما حلمت به منذ زمن وهو الالتحاق بكلية الطب لن يتحقّق، تقول الفتاة  “إيماني بالله وقناعتي بأن لكل شيء حكمة من رب العالمين جعلني أتعايش مع الواقع.”

في أي كليّة تدرسين؟ ماهو تخصصك الجامعي؟ أسئلة عديدة كانت تنهال عليها من كل حدب وصوب لا إجابة لها، لا يمكنها الإلتحاق بأي كليّة أو إيجاد عمل مناسب بدون شهادة، هذه هي النهاية، كانت تقضي كل أيامها في المنزل، روتين ممل يومي مسبباً لها فراغ مؤلم في حياتها.

النهاية؟ لا ليس بعد، منذ فترة وجيزة أعلنت الفتاة عن تحصّلها على شهادة ماجستير مصغّر في إدارة الأعمال بعد أن تمكّنت من إيجاد دورة تدريبيّة، وقد فوجئت جداً بهذا الخبر وفرحت لسماعه، أسرعت وباركت لهذه الصّديقة من شدّة فرحي. استطاعت بعد ذلك العثور على عمل يناسب قدراتها.

 أحياناً تكون النهايات مختلفة عن ما خطّطنا له منذ البداية، وليس هذا بسيء، فهو أمر دنيوي علينا ألّا نعترض عليه وأن نتقبّله برحابة صدر وأن نحاول التأقلم معه بكل ما أوتينا من قوة.. كما فعلت صديقتي.

15129873_561520100722291_1481119217_n
صورة من تصوير صديقتي السّورية للسرايا الحمراء في طرابلس.

 

4 آراء على “من ركام وطن إلى حلم لم يكتمل | رحلة لاجئة

أضف تعليق